إن الطريق إلى رضاء الله محفوف بالمكاره والعقبات.. ولابد أن نجتازها، وأن ندرك ماذا يريد الله منا وماذا نريد لأنفسنا.. حتى نفهم مداخل الشيطان ونسدها عليه فننجو بفضل الله تعالى.
ومن الأشياء التي تعيننا على السير في طريق الله هذا المفهوم، أن تعرف أنك (غال على الله).. ولنفهم هذا المعنى لابد وأن نعرف أن الله يرضى منّا بالقليل، وأنه سبحانه يفرح لتوبة عباده، ويسعى عند إقبال عباده، أي أنه حبيب، قريب، سميع، مجيب؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ".
لماذا؟ لأن الله عنده القبول لك لأقل فعل تفعله لأنه عظيم وكبير. ولسبب مهم هو أنك غال على الله...
إن كل أعمالنا لا تساوي شيئا أمام أقل نعم الله، ولهذا حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستغفر بعد كل صلاة ليُعلِّمنا أن الصلاة مهما كان فيها من خشوع لا ترقى لمقام الله سبحانه وتعالى.. وسبحانه القائل: "مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ". لكنه يقبل ويرضى لأنك غال على الله. فارتقب معي قوله تعالى: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة"..
هي إذن عملية بيع وشراء وتجارة مع الله، فانظر ماذا تبيع وماذا تشتري ومع من تتعامل لتدرك كم دفع الله غاليا أمام ما قدمت أيها العبد الضعيف. "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة"، فكم من العمر ستعيش؟ ستين، سبعين، ثمانين سنة.. ستصلي نصف ساعة في اليوم وكل ثلاث أربع ساعات تصلي عشر دقائق والمطلوب من مالك لو كان عندك مال أصلا 2.5% ولو لم يكن معك لا يهم فربك غني عن العالمين..
ثم إنك تصوم رمضان ولو كنت مريضا أو مسافرا فلا جُناح عليك في إتيان رخص الله تعالى. والله يدفع الثمن "بأن لهم الجنة"، تلك التي يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أفقر أهلها بأنه يملك عشرة أمثال مُلك الدنيا.. تلك الجنة التي يقال لأهلها: "كل ما في الجنه رأيتموه وأعجبكم فهو لكم..."، تلك الجنة التي وأنت جالس فيها كلما مر بخاطرك شيء وجدته في يمينك.. كل هذا مقابل الدقائق التي قدمتها خالصة لله. هو أعطاك الجنة لأنك غالٍ على الله والغالي يأخذ الغالي.
ليس هذا فقط بل إنك تجد فيها ملائكة مسخرة لك كما قال تعالى: "وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ".. إذن فانت غال عنده إن كنت قريبا منه.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث قدسي:
"يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ. وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطِيئَةً لا يُشرِكُ بي شيئًا لَقِيتُهُ بمثْلِهَا مَغفِرةً".
وهكذا يقبل الله عليك بأسرع وأقرب مما تقبل أنت عليه لأنك غالٍ عنده أيها العبد. وإذا قدمت أي خير مهما كان صغيرا، يدخره لك عنده ويعطيك من ثوابه في الدنيا والآخرة، "وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيرٍ تَجدُوهُ عِنْدَ اللّه"..
ولهذا وجبت التضحية في سبيل الله، وأنت موقن بأنك إن ضحيت في سبيل الله، ستجد من الله الخير والعون والبركة، ستجد الفضل الذي هو أعظم مما ضحيت. والتضحية معناها أن تقدم شيئا عزيزا عليك لله، وهناك أمثلة كأن تضحي بعلاقة حب حرام لأجل رضاء الله، ولو كان الخير لك فيمن أحببت فسوف يعطيك الله من تحب ولكن في حلال. ولهذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من تعفف عن شيء في حرام ناله في حلال.
لابد أن نعطي لله ونترك لله، وسنوفَّى بهذا الجزاء الأوفى، "فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى". إن هذا الكلام حق وليس مجرد كلمات نتلوها. ولابد أن يتيقن العبد أن الله سيعوضه خيرا مما ترك له وضحى في سبيله.
فاقرأ معي تلك القصة التي وردت في الأثر والتي تؤكد أن من ضحى تضحية وجدها عند الله عز وجل هي خير وأعظم أجرا..
تقول الرواية إنه كان هناك رجل يسير في الصحراء فسمع صوتا قادما من بين السحب يقول لإحدى السحب: "يا سحابة اسقي أرض فلان.."، يقول: "فتجمعت السحابة وتحركت فتبعتُها، فإذا بالمطر ينزل في أرض، لا يتجاوز خارجها.. فذهبت إلى المسجد فوجدت شخصا فقلت له يا فلان ما الذي سمعته من السحابة؟ فتعجب الرجل وقال هل أحد يعرف اسمي؟ قال له الرجل لقد سمعت صوت اسمك في السحاب.. وقد سخّر الله لك السحاب ليسقي أرضك، ماذا فعلت؟
فقال الرجل: لقد اعتدت على أنني إذا خرج -(الخرج) أي حصدت المحصول- قسمته إلى ثلاثة أثلاث، ثلث لأهل بيتي وثلث أرده إلى الأرض، وثلث في سبيل الله..". وهكذا يوفي الله مع أهل التضحية والوفاء في سبيله، "وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ".
ولهذا يجب عليكم أن تقرأوا الآية وتعوا مغزاها والسعادة التي يلقيها الله في قلوب عباده بالبشرى الطيبة: "فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ". أخذ الله منك شيئاً بسيطا ليعطيك الأغلى من كل شيء تعرفه في هذه الدنيا. أنت تعطيه على قدرك وهو سبحانه يعطيك على قدره.. وفي كل ذلك دليل على أنك غال على الله.
وعلى هذا فإن الله الذي ضحيت بشيء لأجله على قدرك يمكن أن يغير الكون كله لأجلك. فإذا تعجبت من قولي هذا، فأنا أذكرك بقصة أصحاب الكهف الذين وصفهم الله بقوله: "إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى". لقد تركوا دنياهم وحياتهم وتركوا كل شيء فرارا بدينهم، فماذا كان من الله؟
لقد غيّر الله شكل طلوع الشمس كي لا يحترقوا.. الشمس التي تطلع كل يوم في لحظة وفي دقيقة معينة غيّر الله شكل طلوعها لأجلهم.. "وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ"..
قدم أي شيء، ما استطعت أن تقدمه لله، ولو كلمة طيبة، ولو ابتسامة في وجه إنسان تلقاه في الطريق، وإياك إياك أن تستقل شيئا تقدمه لله تعالى، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاعَدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا".. أي مسيرة 70 سنة.. وهذا جزاء صيام يوم واحد، فلا بد من أن تظن في الله خيرا وأن الذي اشترى منك سيضاعف لك الثمن أضعافا مضاعفة.
فتوجّه يا أخي الحبيب إلى الله.. إنه ينتظر منك أن تدعوه فيستجب لك.. أن تُقبِل عليه فيقترب هو منك.. أن تفعل أي ثواب أو تهم بأي حسنة حتى يكتبها لك.. وهو في كل لمحة متودد إليك بلطف، منعم عليك بكرم وعطف.. لأنك غال على الله.
فاللهم علمنا وفقهنا وثبتنا واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.. يا أرحم الراحمين